فصل: تفسير الآيات رقم (107- 109)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 106‏]‏

‏{‏وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏105‏)‏ وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ‏(‏106‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وبالحق أنزلناه وبالحق نَزَل‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن إنزاله حق‏.‏

الثاني‏:‏ أن ما تضمنه من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد حق‏.‏

‏{‏وبالحق نزل‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ وبوحينا نزل‏.‏

الثاني‏:‏ على رسولنا نزل‏.‏

‏{‏وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً‏}‏ يعني مبشراً بالجنة لمن أطاع الله تعالى، ونذيراً بالنار لمن عصى الله تعالى‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقرآناً فرقناه‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ فرقنا فيه بين الحق والباطل، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ فرّقناه بالتشديد وهي قراءة ابن عباس أي نزل مفرّقاً آية آية وهي كذلك في مصحف ابن مسعود وأُبيِّ بن كعب‏:‏ فرقناه عليك‏.‏

الثالث‏:‏ فصّلناه سُورَاً وآيات متميزة، قاله ابن بحر‏.‏

‏{‏لتقرأه على الناس على مُكْثٍ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني على تثبت وترسّل، وهو قول مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه كان ينزل منه شيء، ثم يمكثون بعد ما شاء الله، ثم ينزل شيء آخر‏.‏

الثالث‏:‏ أن يمكث في قراءته عليهم مفرقاً شيئاً بعد شيء، قاله أبو مسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏107- 109‏]‏

‏{‏قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ‏(‏107‏)‏ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ‏(‏108‏)‏ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ‏(‏109‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قل آمنوا بِه أو لا تؤمنوا‏}‏ يعني القرآن، وهذا من الله تعالى على وجه التبكيت لهم والتهديد، لا على وجه التخيير‏.‏

‏{‏إن الذين أوتوا العلم من قَبله‏}‏ فيهم وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم أناس من اليهود، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏إذا يتلى عليهم يخرُّون للأذقان سُجّداً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ كتابهم إيماناً بما فيه من تصديق محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

الثاني‏:‏ القرآن كان أناس من أهل الكتاب إذا سمعوا ما أنزل منه قالوا‏:‏ سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا، وهذا قول مجاهد‏.‏

وفي قوله ‏{‏يخرُّون للأذقان‏}‏ ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن الأذقان مجتمع اللحيين‏.‏

الثاني‏:‏ أنها ها هنا الوجوه، قاله ابن عباس وقتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أنها اللحى، قاله الحسن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏110- 111‏]‏

‏{‏قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ‏(‏110‏)‏ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ‏(‏111‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى‏}‏ في سبب نزولها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ قاله الكلبي‏.‏ أن ذكر الرحمن كان في القرآن قليلاً وهو في التوراة كثير، فلما أسلم ناس من اليهود منهم ابن سلام وأصحابه ساءَهم قلة ذكر الرحمن في القرآن، وأحبوا أن يكون كثيراً فنزلت‏.‏

الثاني‏:‏ ما قاله ابن عباس أنه كان النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً يدعو «يا رحمن يا رحيم» فقال المشركون هذا يزعم أن له إِلهاً واحداً وهو يدعو مثنى، فنزلت الآية‏.‏

‏{‏ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه عنى بالصلاة الدعاء، ومعنى ذلك ولا تجهر بدعائك ولا تخافت به، وهذا قول عائشة رضي الله عنها ومكحول‏.‏ قال إبراهيم‏:‏ لينتهين أقوام يشخصون بأبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم أبصارهم‏.‏

الثاني‏:‏ أنه عنى بذلك الصلاة المشروعة، واختلف قائلو ذلك فيما نهى عنه من الجهر بها والمخافتة فيها على خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه نهى عن الجهر بالقراءة فيها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة كان يجهر بالقراءة جهراً شديداً، فكان إذا سمعه المشركون سبّوه، فنهاه الله تعالى عن شدة الجهر، وأن لا يخافت بها حتى لا يسمعه أصحابه، ويبتغي بين ذلك سبيلاً، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه نهى عن الجهر بالقراءة في جميعها وعن الإسرار بها في جميعها وأن يجهر في صلاة الليل ويسر في صلاة النهار‏.‏

الثالث‏:‏ أنه نهي عن الجهر بالتشهد في الصلاة، قاله ابن سيرين‏.‏

الرابع‏:‏ أنه نهي عن الجهر بفعل الصلاة لأنه كان يجهر بصلاته، بمكة فتؤذيه قريش، فخافت بها واستسر، فأمره الله ألاّ يجهر بها كما كان، ولا يخافت بها كما صار، ويبتغي بين ذلك سبيلاً، قاله عكرمة‏.‏

الخامس‏:‏ يعني لا تجهر بصلاتك تحسنها مرائياً بها في العلانية، ولا تخافت بها تسيئها في السريرة، قال الحسن‏:‏ تحسّن علانيتها وتسيء سريرتها‏.‏

وقيل‏:‏ لا تصلّها رياءً ولا تتركها حياء‏.‏ والأول أظهر‏.‏

روي أن أبا بكر الصديق كان إذا صلى خفض من صوته فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «لم تفعل هذا» قال‏:‏ أناجي ربي وقد علم حاجتي، فقال صلى الله عليه وسلم «أحسنت»‏.‏ وكان عمر بن الخطاب يرفع صوته فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لم تفعل هذا» فقال أُوقظ الوسنان وأطرد الشيطان فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أحسنت»‏.‏ فلما نزلت هذه الآية قال لأبي بكر‏:‏ «ارفع شيئا» وقال لعمر‏:‏ «أخفض شيئاً

»‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أمره بالحمد لتنزيه الله تعالى عن الولد‏.‏

الثاني‏:‏ لبطلان ما قرنه المشركون به من الولد‏.‏

‏{‏ولم يكن له شريك في الملك‏}‏ لأنه واحد لا شريك له في ملك ولا عبادة‏.‏

‏{‏ولم يكن له وليٌّ من الذل‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لم يحالف أحداً‏.‏

الثاني‏:‏ لا يبتغي نصر أحد‏.‏

الثالث‏:‏ لم يكن له وليٌّ من اليهود والنصارى لأنهم أذل الناس، قاله الكلبي‏.‏

‏{‏وكبره تكبيراً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ صِفه بأنه أكبر من كل شيء‏.‏

الثاني‏:‏ كبّره تكبيراً عن كل ما لا يجوز في صفته‏.‏

الثالث‏:‏ عظِّمْه تعظيماً والله أعلم‏.‏

سورة الكهف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ‏(‏1‏)‏ قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ‏(‏2‏)‏ مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ‏(‏3‏)‏ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ‏(‏4‏)‏ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب‏}‏ يعني على محمد القرآن، فتمدح بإنزاله لأنه أنعم عليه خصوصاً، وعلىلخلق عموماً‏.‏ ‏{‏ولم يجعل له عوجاً‏}‏ في ‏{‏عوجاً‏}‏ ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني مختلفاً، قاله مقاتل، ومنه قول الشاعر‏:‏

أدوم بودي للصديق تكرُّماً *** ولا خير فيمن كان في الود أعوجا

الثاني‏:‏ يعني مخلوقاً، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ أنه العدول عن الحق الى الباطل، وعن الاستقامة إلى الفساد، وهو قول علي بن عيسى‏.‏

والفرق بين العوج بالكسر والعوج بالفتح أن العوج بكسر العين ما كان في الدين وفي الطريق وفيما ليس بقائم منتصب، والعوج بفتح العين ما كان في القناة والخشبة وفيما كان قائماً منتصباً‏.‏

‏{‏قيِّماً‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه المستقيم المعتدل، وهذ قول ابن عباس والضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ أنه قيم على سائر كتب الله تعالى يصدقها وينفي الباطل عنها‏.‏

الثالث‏:‏ أنه المعتمد عليه والمرجوع إليه كقيم الدار الذي يرجع إليه في أمرها، وفيه تقديم وتأخير في قول الجميع وتقديره‏:‏ أنزل الكتاب على عبده قيماً ولم يجعل له عوجاً ولكن جعله قيماً‏.‏

‏{‏لينذر بأساً شديداً من لدنه‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه عذاب الاستئصال في الدنيا‏.‏

الثاني‏:‏ أنه عذاب جهنم في الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ‏(‏7‏)‏ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فلعلك باخعٌ نفسك على آثارهم‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ قاتل نفسك، ومنه قول ذي الرُّمَّةِ‏:‏

ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه *** بشيء نحتَهُ عن يديك المقادِرُ

الثاني‏:‏ أن الباخع المتحسر الأسِف، قاله ابن بحر‏.‏

‏{‏على آثارهم‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ على آثار كفرهم‏.‏

الثاني‏:‏ بعد موتهم‏.‏

‏{‏إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً‏}‏ يريد إن لم يؤمن كفار قريش بهذا الحديث يعني القرآن‏.‏

‏{‏أسفاً‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أي غضباً، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ جزعاً، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أنه غمّاً، قاله السدي‏.‏

الرابع‏:‏ حزناً، قاله الحسن، وقد قال الشاعر‏:‏

أرى رجلاً منهم أسيفاً كأنما *** تضُمُّ إلى كشحيه كفّاً مخضبَّا

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنها الأشجار والأنهار التي زين الله الأرض بها، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم الرجال لأنهم زينة الأرض، قاله الكلبي‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم الأنبياء والعلماء، قاله القاسم‏.‏

الرابع‏:‏ أن كل ما على الأرض زينة لها، قاله مجاهد‏.‏

الخامس‏:‏ أن معنى ‏{‏زينة لها‏}‏ أي شهوات لأهلها تزين في أعينهم وأنفسهم‏.‏

‏{‏لنبلوهم أيهم أحْسَنُ عملاً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ أيهم أحسن إعراضاً عنها وتركاً لها، قاله ابن عطاء‏.‏

الثاني‏:‏ أيهم أحسن توكلاً علينا فيها، قاله سهل بن عبد الله‏.‏

الثالث‏:‏ أيهم أصفى قلباً وأهدى سمتاً‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ لنختبرهم أيهم أكثر اعتباراً بها‏.‏

ويحتمل خامساً‏:‏ لنختبرهم في تجافي الحرام منها‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإنّا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً‏}‏ في الصعيد ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ الأرض المستوية، قاله الأخفش ومقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ هو وجه الأرض لصعوده، قاله ابن قتيبة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه التراب، قاله أبان بن تغلب‏.‏

وفي الجُرُز أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ بلقعاً، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ ملساء، وهو قول مقاتل‏.‏

الثالث‏:‏ محصورة، وهو قول ابن بحر‏.‏

الرابع‏:‏ أنها اليابسة التي لا نبات بها ولا زرع قال الراجز‏:‏

قد جرفتهن السُّنون الأجراز‏.‏‏.‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 12‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا ‏(‏9‏)‏ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ‏(‏10‏)‏ فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ‏(‏11‏)‏ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً‏}‏ أما الكهف فهو غار في الجبل الذي أوى إليه القوم‏.‏ وأما الرقيم ففيه سبعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه اسم القرية التي كانوا منها، قاله ابن عباس‏.‏ الثاني‏:‏ أنه اسم الجبل، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ أنه اسم الوادي، قاله الضحاك‏.‏ قال عطية العوفي‏:‏ هو واد بالشام نحو إبلة وقد روي أن اسم جبل الكهف بناجلوس، واسم الكهف ميرم واسم المدينة أفسوس، واسم الملك وفيانوس‏.‏

الرابع‏:‏ أنه اسم كلبهم‏.‏ قاله سعيد بن جبير، وقيل هو اسم لكل كهف‏.‏

الخامس‏:‏ أن الرقيم الكتاب الذي كتب فيه شأنهم، قاله مجاهد‏.‏ ماخوذ من الرقم في الثوب‏.‏ وقيل كان الكتاب لوحاً من رصاص على باب الكهف، وقيل في خزائن الملوك لعجيب أمرهم‏.‏

السادس‏:‏ الرقيم الدواة بالرومية، قاله أبو صالح‏.‏

السابع‏:‏ أن الرقيم قوم من أهل الشراة كانت حالهم مثل حال أصحاب الكهف، قاله سعيد بن جبير‏.‏

‏{‏كانوا مِنْ آياتنا عجباً‏}‏ فيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ معناه ما حسبت أنهم كانوا من آياتنا عجباً لولا أن أخبرناك وأوحينا إليك‏.‏

الثاني‏:‏ معناه أحسبت أنهم أعجب آياتنا وليسوا بأعجب خلقنا، قاله مجاهد‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إذ أوى الفتية إلى الكهف‏}‏ اختلف في سبب إيوائهم إليه على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم قوم هربوا بدينهم إلى الكهف، قاله الحسن‏.‏ ‏{‏فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرِنا رشداً‏}‏‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم أبناء عظماء وأشراف خرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد، فقال أسَنُّهم‏:‏ إني أجد في نفسي شيئاً ما أظن أحداً يجده، إن ربي رب السموات والأرض، ‏{‏فقالوا‏}‏ جميعاً ‏{‏ربُّنا ربُّ السموات والأرض لن ندعوا من دونه إلهاً لقد قلنا إذاً شَطَطَاً‏}‏ ثم دخلوا الكهف فلبثوا فيه ثلاثمائةٍ سنين وازدادوا تسعاً، قاله مجاهد‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ هم أبناء الروم دخلوا الكهف قبل عيسى، وضرب الله تعالى على آذنهم فيه، فلما بعث الله عيسى أخبر بخبرهم، ثم بعثهم الله تعالى بعد عيسى في الفترة التي بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفي ‏{‏شططاً‏}‏ ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ كذباً، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ غلوّاً، قاله الأخفش‏.‏

الثالث‏:‏ جوراً، قاله الضحاك‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً‏}‏ والضرب على الآذان هو المنع من الاستماع، فدل بهذا على أنهم لم يموتوا وكانوا نياماً، ‏{‏سنين عدداً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ إحصاء‏.‏

الثاني‏:‏ سنين كاملة ليس فيها شهور ولا أيام‏.‏

وإنما ضرب الله تعالى على آذانهم وإن لم يكن ذلك من أسباب النوم لئلا يسمعوا ما يوقظهم من نومهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثم بعثناهم‏}‏ الآية‏.‏ يعني بالعبث إيقاظهم من رقدتهم‏.‏ ‏{‏لنِعلَم‏}‏ أي لننظر ‏{‏أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ عدداً، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أجلاً، قاله مقاتل‏.‏

الثالث‏:‏ الغاية، قاله قطرب‏.‏

وفي الحزبين أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن الحزبين هما المختلفان في أمرهم من قوم الفتية، قاله مجاهد‏.‏ الثاني‏:‏ أن أحد الحزبين الفتية،

والثاني‏:‏ من حضرهم من أهل ذلك الزمان‏.‏ الثالث‏:‏ أن أحد الحزبين مؤمنون، والآخر كفار‏.‏

الرابع‏:‏ أن أحد الحزبين الله تعالى، والآخر الخلق، وتقديره‏:‏ أنتم أعلم أم الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 16‏]‏

‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ‏(‏13‏)‏ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ‏(‏14‏)‏ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ‏(‏15‏)‏ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وربطنا على قلوبهم‏.‏‏.‏‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ثبتناها‏.‏

الثاني‏:‏ ألهمناها صبراً، قاله اليزيدي‏.‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ ولقد قلنا إذاً شططاً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ غُلواً‏.‏

الثاني‏:‏ تباعداً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ لولا يأتون عليهم بسلطان بيّنٍ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ بحجة بينة، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ بعذر بيّن، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ بكتاب بيّن، قاله الكلبي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً‏}‏ فيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ سعة‏.‏

الثاني‏:‏ معاشاً‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ يعني خلاصاً، ويقرأ ‏{‏مِرْفقاً‏}‏ بكسر الميم وفتح الفاء ‏{‏ومَرفِقاً‏}‏ بفتح الميم وكسر الفاء، والفرق بينهما أنه بكسر الميم وفتح الفاء إذا وصل إليك من غيرك، وبفتح الميم وكسر الفاء إذا وصل منك إلى غيرك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وترى الشمس إذا طَلَعَتْ تزوار عن كهفهم ذاتَ اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال‏}‏ فيه وجهان

أحدهما‏:‏ تعرض عنه فلا تصيبه‏.‏

الثاني‏:‏ تميل عن كهفهم ذات اليمين‏.‏

‏{‏وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ معنى تقرضهم تحاذيهم، والقرض المحاذاة، قاله الكسائي والفراء‏.‏

الثاني‏:‏ معناه تقطعهم ذات الشمال أي أنها تجوزهم منحرفة عنهم، من قولك قرضته بالمقراض أي قطعته‏.‏

الثالث‏:‏ معناه تعطيهم اليسير من شعاعها ثم تأخذه بانصرافها، مأخوذ من قرض الدراهم التي ترد لأنهم كانوا في مكان موحش، وقيل لأنه لم يكن عليهم سقف يظلهم ولو طلعت عليهم لأحرقتهم‏.‏

وفي انحرافها عنهم في الطلوع والغروب قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ لأن كهفهم كان بإزاء بنات نعش فلذلك كانت الشمس لا تصيبه في وقت الشروق ولا في وقت الغروب، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ أن الله تعالى صرف الشمس عنهم لتبقى أجسامهم وتكون عبر لمن يشاهدهم أو يتصل به خبرهم‏.‏

‏{‏وهم في فجوة منه‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ يعني في فضاء منه، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ داخل منه، قاله سعيد بن جبير‏.‏

الثالث‏:‏ أنه المكان الموحش‏.‏

الرابع‏:‏ أنه ناحية متسعة، قاله الأخفش، ومنه قول الشاعر‏:‏

ونحن ملأنا كلَّ وادٍ وفجوةٍ *** رجالاً وخيلاً غير ميلٍ ولا عُزْلِ

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وتحسبهم أيقاظاً وهم رقودٌ‏}‏ الأيقاظ‏:‏ المنتبهون‏.‏

قال الراجز‏:‏

قد وجدوا إخوانهم أيقاظا *** والسيف غياظ لهم غياظا

والرقود‏:‏ النيام‏.‏ قيل إن أعينهم كانت مفتوحة ويتنفسون ولا يتكلمون‏.‏

‏{‏ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال‏}‏ يعني تقلب النيام لأنهم لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض لطول مكثهم‏.‏ وقيل إنهم كانوا يقلبون في كل عام مرتين، ستة أشهر على جنب‏.‏ وستة أشهر على جنبٍ آخر، قاله ابن عباس‏.‏

قال مجاهد‏:‏ إنما قلبوا تسع سنين بعد ثلاثمائة سنة لم يقلبوا فيها‏.‏

وفيما تحسبهم من أجله أيقاظاً وهم رقود قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ لانفتاح أعينهم‏.‏

الثاني‏:‏ لتقليبهم ذات اليمين وذات الشمال‏.‏

‏{‏وكلبهم باسِطٌ ذِراعيه بالوصيد‏}‏ في ‏{‏كلبهم‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه كلب من الكلاب كان معهم، وهو قول الجمهور‏.‏ وقيل إن اسمه كان حمران‏.‏

الثاني‏:‏ أنه إنسان من الناس كان طباخاً لهم تبعهم، وقيل بل كان راعياً‏.‏ وفي ‏{‏الوصيد‏}‏ خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه العتبة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الفناء قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الحظير، حكاه اليزيدي‏.‏

الرابع‏:‏ أن الوصيد والصعيد التراب، قاله سعيد بن جبير‏.‏

الخامس‏:‏ أنه الباب، قاله عطية، وقال الشاعر‏:‏

بأرض فضاءَ لا يُسَدُّ وَصيدها *** عليَّ ومعروفي بها غيرُ مُنْكَرِ

وحكى جرير بن عبيد أنه كان كلباً ربيباً صغيراً‏.‏ قال محمد بن إسحاق كان اصفر اللون‏.‏

‏{‏لو أطّلعت عليهم لوليت منهم فِراراً ولملِئت منهم رُعباً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لطول أظفارهم وشعورهم يأخذه الرعب منهم فزعاً‏.‏

الثاني‏:‏ لما ألبسهم الله تعالى من الهيبة التي ترد عنهم الأبصار لئلا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب فيهم أجله‏.‏

حكى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ غزوت مع معاوية رضي الله عنه في بحر الروم فانتهينا إلى الكهف الذي فيه أصحاب الكهف، فقال معاوية أريد أن أدخل عليهم فأنظر إليهم، فقلت ليس هذا لك فقد منعه الله من هو خير منك، قال تعالى ‏{‏لو اطعلت عليهم لوليت منهم فراراً‏}‏ الآية‏.‏ فأرسل جماعة إليهم دخلوا الكهف أرسل الله عليهم ريحاً أخرجتهم‏.‏

وقيل إن هذه المعجزة من قومهم كانت لنبي قيل إنه كان أحدهم وهو الرئيس الذي اتبعوه وآمنوا به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ‏(‏19‏)‏ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وكذلك بعثناهم‏}‏ يعني به إيقاظهم من نومهم‏.‏ قال مقاتل‏:‏ وأنام الله كلبهم معهم‏.‏ ‏{‏ليتساءلوا بينهم قال قائلٌ منهم كم لبثتم‏}‏ ليعلموا قدر نومهم‏.‏

‏{‏قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم‏}‏ كان السائل منهم أحدهم، والمجيب له غيره، فقال لبثنا يوما لأنه أطول مدة النوم المعهود، فلما رأى الشمس لم تغرب قال ‏{‏أو بعض يوما‏}‏ لأنهم أنيموا أول النهار ونبهوا آخره‏.‏

‏{‏قالوا ربُّكم أعْلمُ بما لبثتم‏}‏ وفي قائله قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه حكاية عن الله تعالى أنه أعلم بمدة لبثهم‏.‏

الثاني‏:‏ أنه قول كبيرهم مكسلمينا حين رأى الفتية مختلفين فيه فقال ‏{‏ربكم أعلم بما لبثتم‏}‏ فنطق بالصواب ورد الأمر إلى الله عالمه، وهذا قول ابن عباس‏.‏

‏{‏فابعثوا أحدكم بورقكم هذه الى المدينة‏}‏ قرئ بكسر الراء وبتسكينها، وهو في القراءتين جميعاً الدراهم، وأما الورَق بفتح الراء فهي الإبل والغنم، قال الشاعر‏:‏

إياك أدعو فتقبل مَلَقي *** كَفِّرْ خطاياي وثمِّرْ ورقي

يعني إبله وغنمه‏.‏

‏{‏فلينظر أيها أزكي طعاماً‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أيها أكثر طعاماً، وهذا قول عكرمة‏.‏

الثاني‏:‏ أيها أحل طعاماً، وهذا قول قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أطيب طعاماً، قاله الكلبي‏.‏

الرابع‏:‏ أرخص طعاماً‏.‏

‏{‏فليأتكم برزق مِنْه‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بما ترزقون أكله‏.‏

الثاني‏:‏ بما يحل لكم أكله‏.‏

‏{‏وليتلطف‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ وليسترخص‏.‏

الثاني‏:‏ وليتلطف في إخفاء أمركم‏.‏ وهذا يدل على جواز اشتراك الجماعة في طعامهم وإن كان بعضهم أكثر أكلاً وهي المناهدة، وكانت مستقبحة في الجاهلية فجاء الشرع بإباحتها‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يرجموكم بأيديهم استنكاراً لكم، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ بألسنتهم غيبة لكم وشتماً، قاله ابن جريج‏.‏

الثالث‏:‏ يقتلوكم‏.‏ والرجم القتل لأنه أحد أسبابه‏.‏ ‏{‏أو يعيدوكم في ملتهم‏}‏ يعني في كفرهم‏.‏

‏{‏ولن تفلحوا إذاً أبداً‏}‏ إن أعادوكم في ملتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وكذلك أعثرنا عليهم‏}‏ فيه وجهان

أحدهما‏:‏ أظهرنا أهل بلدهم عليهم‏.‏

الثاني‏:‏ أطلعنا برحمتنا إليهم‏.‏

‏{‏وليعلموا أن وعْدَ اللهِ حقٌّ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ ليعلم أهل بلدهم أن وعد الله حق في قيام الساعة وإعادة الخلق أحياء، لأن من أنامهم كالموتى هذه المدة الخارجة عن العادة ثم أيقظهم أحياء قادر على إحياء من أماته وأقبره‏.‏

الثاني‏:‏ معناه ليرى أهل الكهف بعد علمهم أن وعد الله حق في إعادتهم‏.‏ ‏{‏إذ يتنازعون بينهم أمرهم‏}‏ ذلك أنهم لما بعثوا أحدهم بورقهم إلى المدينة ليأتيهم برزق منها وطعام، استنكروا شخصه واستنكرت ورقه لبعد العهد فحمل إلى الملك وكان صالحاً قد آمن ومن معه، فلما نظر إليه قال‏:‏ لعل هذا من الفتية الذين خرجوا على عهد دقيانوس الملك فقد كنت أدعو الله أن يريناهم، وسأل الفتى فأخبره فانطلق والناس معه إليهم، فلما دنوا من أهل الكهف وسمع الفتية كلامهم خافوهم ووصى بعضهم بعضاً بدينهم فلما دخلوا عليهم أماتهم الله ميتة الحق، فحينئذ كان التنازع الذي ذكره الله تعالى فيهم‏.‏

وفي تنازعهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم تنازعوا هل هم أحياء أم موتى؛

الثاني‏:‏ أنهم تنازعوا بعد العلم بموتهم هل يبنون عليهم بنياناً يعرفون به أم يتخذون عليهم مسجداً‏.‏

وقيل‏:‏ إن الملك أراد أن يدفنهم في صندوق من ذهب، فأتاه آت منهم في المنام فقال‏:‏ أردت أن تجعلنا في صندوق من ذهب فلا تفعل فإنا من التراب خلقنا وإليه نعود فدعْنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم‏}‏ فأدخل الواو على انقطاع القصة لأن الخبر قد تم‏.‏

‏{‏قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل‏}‏ في المختلفين في عددهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم أهل المدينة قبل الظهور عليهم‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم أهل الكتاب بعد طول العهد بهم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رجماً بالغيب‏}‏ قال قتادة قذفاً بالظن، قال زهير‏:‏

وما الحرب إلاَّ ما علمتم وذقتم *** وما هو عنها بالحديث المرجّم‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ أنا من القليل الذي استثنى الله تعالى‏:‏ كانوا سبعة وثامنهم كلبهم‏.‏

وقال ابن جريج ومحمد بن إسحاق‏:‏ كانوا ثمانية، وجعلا قوله تعالى‏:‏

‏{‏وثامنهم كلبهم‏}‏ أي صاحب كلبهم‏.‏

وكتب قومهم أسماءهم حين غابوا، فلما بان أمرهم كتبت أسماؤهم على باب الكهف‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ أسماؤهم مكسلمينا ويمليخا وهو الذي مضى بالورق يشتري به الطعام، ومطرونس، ومحسيميلنينا، وكشوطوش، وبطلنوس ويوطونس وبيرونس‏.‏

قال مقاتل‏:‏ وكان الكلب لمكسلمينا وكان أسنهم وكان صاحب غنم‏.‏ ‏{‏فلا تمار فيهم إلاّ مراءً ظاهراً‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ إلا ما قد أظهرنا لك من أمرهم، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ حسبك ما قصصا عليك من شأنهم، فلا تسألني عن إظهار غيره، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ إلا مِراء ظاهراً يعني بحجة واضحة وخبر صادق، قاله علي بن عيسى‏.‏

الرابع‏:‏ لا تجادل فيهم أحداً ألا أن تحدثهم به حديثاً، قاله ابن عباس‏.‏

الخامس‏:‏ هو أن تشهد الناس عليهم‏.‏ ‏{‏ولا تستفت فيهم منهم أحداً‏}‏ فيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ ولا تستفت يا محمد فيهم أحداً من أهل الكتاب، قاله ابن عباس‏.‏ ومجاهد وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ونهي لأمته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ‏(‏23‏)‏ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولا تقولن لشيءإني فاعلٌ ذلك غداً‏}‏ ‏{‏إلا إن يشاء الله‏}‏ قال الأخفش‏:‏ فيه إضمار وتقديره‏:‏ إلا أن تقول إن شاء الله، وهذا وإن كان أمراً فهو على وجه التأديب والإرشاد أن لا تعزم على أمر إلا أن تقرنه بمشيئة الله تعالى لأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن العزم ربما صد عنه بمانع فيصير في وعده مخلفاً في قوله كاذباً، قال موسى عليه السلام ‏{‏ستجدني إن شاء الله صابراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 70‏]‏ ولم يصبر ولم يكن كاذباً لوجود الاستثناء في كلامه‏.‏

الثاني‏:‏ إذعاناً لقدرة الله تعالى، وإنه مدبر في أفعاله بمعونة الله وقدرته‏.‏

الثالث‏:‏ يختص بيمينه إن حلف وهو سقوط الكفارة عنه إذا حنث‏.‏

‏{‏واذكر ربك إذا نسيت‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنك إذا نسيت الشيء فاذكرالله ليذكرك إياه، فإن فعل فقد أراد منك ما ذكرك، وإلا فسيدلك على ما هو أرشد لك مما نسيته، قاله بعض المتكلمين‏.‏

الثاني‏:‏ واذكر ربك إذا غضبت، قاله عكرمة، ليزول عنك الغضب عند ذكره‏.‏

الثالث‏:‏ واذكر ربك إذا نسيت الاستثناء بمشيئة الله في يمينك‏.‏ وفي الذكر المأمور به قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه ما ذكره في بقية الآية ‏{‏وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً‏}‏

الثاني‏:‏ أنه قول إن شاء الله الذي كان نسيه عند يمينه‏.‏

واختلفوا في ثبوت الاستثناء بعد اليمين على خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه يصح الاستثناء بها إلى سنة، فيكون كالاستثناء بها مع اليمين في سقوط الكفارة ولا يصح بعد السنة، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ يصح الاستثناء بها في مجلس يمينه، ولا يصح بعد فراقه، قاله الحسن وعطاء‏.‏

الثالث‏:‏ يصح الاستثناء بها ما لم يأخذ في كلام غيره‏.‏

الرابع‏:‏ يصح الاستثناء بها مع قرب الزمان، ولا يصح مع بعده‏.‏

الخامس‏:‏ أنه لا يصح الاستثناء بها إلا متصلاً بيمينه وهو الظاهر من مذهب مالك والشافعي رحمهما الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ‏(‏25‏)‏ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِع مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً‏}‏ في قراءة ابن مسعود قالوا لبثوا في كهفهم‏.‏ وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن هذا قول اليهود، وقيل بل نصارى نجران أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً، فرد الله تعالى عليهم قولهم وقال لنبيه ‏{‏قل الله أعلم بما لبثوا‏}‏

واتلقول الثاني‏:‏ أن هذا إخبار من الله تعالى بهذا العدد عن مدة بقائهم في الكهف من حين دخلوه إلى ما ماتوا فيه‏.‏

‏{‏وازدادوا تسعاً‏}‏ هو ما بين السنين الشمسية والسنين القمرية‏.‏

‏{‏قل الله أعلم بما لبثوا‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بما لبثوا بعد مدتهم إلى نزول القرآن فيهم‏.‏

الثاني‏:‏ الله أعلم بما لبثوا في الكهف وهي المدة التي ذكرها عن اليهود إذ ذكروا زيادة ونقصاناً‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ أبصر به وأسمع‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الله أبصر وأسمع، أي أبصر، بما قال وأسمع لما قالوا‏.‏ الثاني‏:‏ معناه أبصرهم وأسمعهم، ما قال الله فيهم‏.‏

‏{‏ما لهم من دونه من وَليّ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ من ناصر‏.‏

الثاني‏:‏ من مانع‏.‏ ‏{‏ولا يشرك في حكمه أحداً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ولا يشرك في علم غيبه أحداً‏.‏

الثاني‏:‏ أنه لم يجعل لأحد أن يحكم بغير حكمه فيصير شريكاً له في حكمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ‏(‏27‏)‏ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ ولن تجد من دونه مُلتحداً‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ ملجأ، قاله مجاهد، قال الشاعر‏:‏

لا تحفيا يا أخانا من مودّتنا *** فما لنا عنك في الأقوام مُلتحد

الثاني‏:‏ مهرباً، قاله قطرب، قال الشاعر‏:‏

يا لهف نفسي ولهفٌ غير مغنيةٍ *** عني وما مِنْ قضاء الله ملتحدُ

الثالث‏:‏ معدلاً، قاله الأخفش‏.‏

الرابع‏:‏ ولياً، قاله قتادة‏.‏ ومعانيها متقاربة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يريدون تعظيمه‏.‏ الثاني‏:‏ يريدون طاعته‏.‏ قال قتادة‏:‏ نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فلما نزلت عليه قال‏:‏ «الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر معهم

»‏.‏ ‏{‏يدعون ربهم بالغداة والعشي‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يدعونه رغبة ورهبة‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم المحافظون على صلاة الجماعة، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ أنها الصلاة المكتوبة، قاله ابن عباس ومجاهد‏.‏

ويحتمل وجهاً رابعاً‏:‏ أن يريد الدعاء في أول النهار وآخره ليستفتحوا يومهم بالدعاء رغبة في التوفيق، ويختموه بالدعاء طلباً للمغفرة‏.‏

‏{‏يريدون وجهه‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ بدعائهم‏.‏

الثاني‏:‏ بعمل نهارهم‏.‏ وخص النهار بذلك دون الليل لأن عمل النهار إذا كان لله تعالى فعمل الليل أولى أن يكون له‏.‏

‏{‏ولا تعد عيناك عنهم‏.‏‏.‏‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ولا تتجاوزهم بالنظر إلى غيرهم من أهل الدنيا طلباً لزينتها، حكاه اليزيدي‏.‏ الثاني‏:‏ ما حكاه ابن جريج أن عيينة بن حصن قال للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم‏:‏ لقد آذاني ريح سلمان الفارسي وأصحابه فاجعل لنا مجلساً منك لا يجامعونا فيه، واجعل لهم مجلساً لا نجامعهم فيه، فنزلت‏.‏

‏{‏ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذِكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً‏}‏‏.‏

قوله ‏{‏أغفلنا‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ جعلناه غافلاً عن ذكرنا‏.‏

الثاني‏:‏ وجدناه غافلاً عن ذكرنا‏.‏

وفي هذه الغفله لأصحاب الخواطر ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ أنها إبطال الوقت بالبطالة، قاله سهل بن عبد الله‏.‏

الثاني‏:‏ أنها طول الأمل‏.‏

الثالث‏:‏ أنها ما يورث الغفلة‏.‏

‏{‏واتبع هواه‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ في شهواته وأفعاله‏.‏

الثاني‏:‏ في سؤاله وطلبه التمييز عن غيره‏.‏

‏{‏وكان أمرُه فُرُطاً‏}‏ فيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ ضيقاً، وهو قول مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ متروكاً، قاله الفراء‏.‏

الثالث‏:‏ ندماً قاله ابن قتيبة‏.‏

الرابع‏:‏ سرفاً وإفراطاً، قاله مقاتل‏.‏

الخامس‏:‏ سريعاً‏.‏ قاله ابن بحر‏.‏ يقال أفرط إذا أسرف وفرط إذا قصر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر‏}‏ هذا وإن كان خارجاً مخرج التخيير فهو على وجه التهديد والوعيد، وفيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم لا ينفعون الله بإيمانهم ولا يضرونه بكفرهم‏.‏

الثاني‏:‏ فمن شاء الجنة فليؤمن، ومن شاء النار فليكفر، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ فمن شاء فليعرِّض نفسه للجنة بالإيمان، ومن شاء فليعرض نفسه للنار بالكفر‏.‏

‏{‏إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أن سرادقها حائط من النار يطيف بهم، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ هو دخانها ولهيبها قبل وصولهم إليها، وهو الذي قال الله تعالى فيه ‏{‏إلى ظلٍّ ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 30-31‏]‏‏.‏ قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه البحر المحيط بالدنيا‏.‏ روى يعلى بن أمية قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «البحر هو جهنم» ثم تلا ‏{‏ناراً أحاط بهم سرادقها‏}‏ ثم قال «والله لا أدخلها أبداً ما دمت حياً ولا يصيبني منها قطرة» والسرادق فارسي معرب، واصله سرادر‏.‏

‏{‏وإن يستغيثوا يُغَاثوا بماءٍ كالمهل‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه القيح والدم، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ دردي الزيت، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ أنه كل شيء أذيب حتى انماع؛ قاله ابن مسعود‏.‏

الرابع‏:‏ هو الذي قد انتهى حره، قاله سعيد بن جبير، قال الشاعر‏:‏

شاب بالماء منه مهلاً كريهاً *** ثم علّ المتون بعد النهال

وجعل ذلك إغاثة لاقترانه بذكر الاستغاثة‏.‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ بئس الشراب وساءت مرتفقاً‏}‏ في المرتفق أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ معناه مجتمعاً، قاله مجاهد، كأنه ذهب إلى معنى المرافقة‏.‏

الثاني‏:‏ منزلاً قاله الكلبي، مأخوذ من الارتفاق‏.‏

الثالث‏:‏ أنه من الرفق‏.‏

الرابع‏:‏ أنه من المتكأ مضاف إلى المرفق، ومنه قول أبي ذؤيب‏:‏

نامَ الخَلِيُّ وَبِتُّ الليْلَ مُرْتَفِقاً *** كَأَنَّ عَيْنِي فيها الصَّابُ مَذْبُوحُ

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 31‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ‏(‏30‏)‏ أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنّا لا نضيع أجْر من أحسن عملاً‏}‏ روى البراء بن عازب أن أعرابياً قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال‏:‏ إني رجل متعلم فأخبرني عن هذه الآية ‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ الآية فقال رسول الله صلى عليه وسلم «يا أعرابي ما أنت منهم ببعيد ولا هم ببعيد منك، هم هؤلاء الأربعة الذين هم وقوف، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فأعلم قومك أن هذه الآية نزلت فيهم

»‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ ويلبسون ثياباً خُضْراً مِن سندس وإستبرق‏}‏ أما السندس‏:‏ ففيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه من ألطف من الديباج، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ ما رَقَّ من الديباج، واحده سندسة، قاله ابن قتيبة‏.‏ وفي الاستبرق قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه ما غلظ من الديباج، قاله ابن قتيبة، وهو فارسي معرب، أصله استبره وهو الشديد، وقد قال المرقش‏:‏

تراهُنَّ يَلبْسنَ المشاعِرَ مرة *** وإسْتَبْرَقَ الديباج طوراً لباسُها

الثاني‏:‏ أنه الحرير المنسوج بالذهب، قاله ابن بحر‏.‏

‏{‏متكئين فيها على الأرائك‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها الحجال، قاله الزجاج‏.‏

الثاني‏:‏ أنها الفُرُش في الحجال‏.‏

الثالث‏:‏ أنها السرر في الحجال، وقد قال الشاعر‏:‏

خدوداً جفت في السير حتى كأنما *** يباشرْن بالمعزاء مَسَّ الأرائكِ

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 36‏]‏

‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ‏(‏32‏)‏ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ‏(‏33‏)‏ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ‏(‏34‏)‏ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ‏(‏35‏)‏ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين‏}‏ الجنة‏:‏ البستان، فإذا جمع العنب والنخل وكان تحتها زرع فهي أجمل الجنان وأجداها نفعاً، لثمر أعاليها وزرع أسافلها، وهو معنى قوله ‏{‏وجعلنا بينهما رزعاً‏}‏‏.‏

‏{‏كلتا الجَنتين آتت أكلُها‏}‏ أي ثمرها وزرعها، وسماه أكُلاً لأنه مأكول‏.‏

‏{‏ولم تظلم منه شيئاً‏}‏ أي استكمل جميع ثمارها وزرعها‏.‏

‏{‏وفجرنا خِلالهما نهراً‏}‏ يعني أن فيهما أنهاراً من الماء، فيكون ثمرها وزرعها بدوام الماء فيهما أو في وأروى، وهذه غاية الصفات فيما يجدي ويغل‏.‏

وفي ضرب المثل في هاتين الجنتين قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما حكاه مقاتل بن سليمان أنه إخبار الله تعالى عن أخوين كانا في بني إسرائيل ورثا عن أبيهما مالاً جزيلاً، قال ابن عباس ثمانية آلاف دينار‏.‏ فأخذ أحدهما حقه وهو مؤمن فتقرب به إلى الله تعالى، وأخذ الآخر حقه منه وهو كافر فتملك به ضياعاً منها هاتان الجنتان، ولم يتقرب إلى الله تعالى بشيء منه، فكان من حاله ما ذكره الله من بعد، فجعله الله تعالى مثلاً لهذه الأمة‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه مثل ضربه الله تعالى لهذه الأمة، وليس بخبر عن حال متقدمة، ليزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة، وجعله زجراً وإنذاراً‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وكان له ثمرٌ‏}‏ قرأ عاصم بفتح الثاء والميم، وقرأ أبو عمرو بضم الثاء وإسكان الميم، وقرأ الباقون ثُمُر بضم الثاء والميم‏.‏ وفي اختلاف هاتين القراءتين بالضم والفتح قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناهما واحد، فعلى هذا فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الذهب والفضة، قاله قتادة، لأنها أموال مثمرة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه المال الكثير من صنوف الأموال، قاله ابن عباس لأن تثميره أكثر

الثالث‏:‏ أنه الأصل الذي له نماء، قاله ابن زيد، لأن في النماء تثميراً‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن معناهما بالضم وبالفتح مختلف، فعلى هذا في الفرق‏.‏ بينهما، أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه بالفتح جمع ثمرة، وبالضم جمع ثمار‏.‏

الثاني‏:‏ أنه بالفتح ثمار النخيل خاصة، وبالضم جميع الأموال، قاله ابن بحر‏.‏

الثالث‏:‏ أنه بالفتح ما كان ثماره من أصله، وبالضم ما كان ثماره من غيره‏.‏

الرابع‏:‏ أن الثمر بالضم الأصل، وبالفتح الفرع، قاله ابن زيد‏.‏

وفي هذا الثمر المذكور قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه ثمر الجنتين المتقدم ذكرهما، وهو قول الجمهور‏.‏

الثاني‏:‏ أنه ثمر ملكه من غير جنتيه، وأصله كان لغيره كما يملك الناس ثماراً لا يملكون أصولها، قاله ابن عباس، ليجتمع في ملكه ثمار أمواله وثمار غير أمواله فيكون أعم مِلكا‏.‏

‏{‏فقال لصاحبه‏}‏ يعني لأخيه المسلم الذي صرف ماله في القُرب طلباً للثواب في الآخرة، وصرف هذا الكافر ماله فيما استبقاه للدنيا والمكاثرة‏.‏

‏{‏وهو يحاوره‏}‏ أي يناظره، وفيما يحاوره فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ في الإيمان والكفر‏.‏

الثاني‏:‏ في طلب الدنيا وطلب الآخرة، فجرى بينهما ما قصة الله تعالى من قولهما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 41‏]‏

‏{‏قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ‏(‏37‏)‏ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ‏(‏38‏)‏ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ‏(‏39‏)‏ فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ‏(‏40‏)‏ أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ‏(‏41‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعسى ربّي أن يؤتين خيراً مِنْ جنتك‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ خيراً من جنتك في الدنيا فأساويك فيها‏.‏

الثاني‏:‏ وهو الأشهر خيراً من جنتك في الآخرة، فأكون أفضل منك فيها‏.‏

‏{‏ويرسل عليها حُسْباناً من السماء‏}‏ فيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني عذاباً، قاله ابن عباس وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ ناراً‏.‏

الثالث‏:‏ جراداً‏.‏

الرابع‏:‏ عذاب حساب بما كسبت يداك، قاله الزجاج، لأنه جزاء الآخرة‏.‏ والجزاء من الله تعالى بحساب‏.‏

الخامس‏:‏ أنه المرامي الكثيرة، قاله الأخفش وأصله الحساب وفي السهام التي يرمى بها في طلق واحد، وكان من رَمي الأساورة‏.‏

‏{‏فتصبح صعيداً زلقاً‏}‏ يعني أرضاً بيضاء لا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم، وهي أضر أرض بعد أن كانت جنة أنفع أرض‏.‏

‏{‏أو يصبح ماؤها غوراً‏}‏ يعني ويصبح ماؤها غوراً، فأقام أو مقام الواو، و‏{‏غوراً‏}‏ يعني غائراً ذاهباً فتكون أعدم أرض للماء بعد أن كان فيها‏.‏

‏{‏فلن تستطيع له طلباً‏}‏ ويحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ فلن تستطيع رد الماء الغائر‏.‏ الثاني‏:‏ فلن تستطيع طلب غيره بدلاً منه وإلى هذا الحد انتهت مناظرة أخيه وإنذاره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 44‏]‏

‏{‏وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ‏(‏42‏)‏ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ‏(‏43‏)‏ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وأحيط بثمرِهِ‏}‏ أي أهلك ماله، وهذا أول ما حقق الله به إنذار أخيه‏.‏ ‏{‏فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ يقلب كفيه ندماً على ما أنفق فيها وأسفاً على ما تلف‏.‏

الثاني‏:‏ يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق وهلك، لأن الملك قد يعبر عنه باليد، من قولهم في يده مال، أي في ملكه‏.‏

‏{‏وهي خاويةٌ على عروشِها‏}‏ أي منقلبة على عاليها فجمع عليه بين هلاك الأصل والثمر، وهذا من أعظم الجوائح مقابلة على بغيه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولم تكُنْ له فِئة ينصرونه منْ دونِ الله‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الفئة الجند، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ العشيرة، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏وما كان منتصراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ وما كان ممتنعاً، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ وما كان مسترداً بدل ما ذهب منه‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ هما الرجلان ذكرهما الله تعالى في سورة الصافات حيث يقول‏:‏

‏{‏إني كان لي قرين‏}‏ إلى قوله ‏{‏في سواء الجحيم‏}‏ وهذا مثل قيل إنه ضرب لسلمان وخباب وصهيب مع أشراف قريش من المشركين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هنالك الولاية لله الحق‏}‏ يعني القيامة‏.‏ وفيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم يتولون الله تعالى في القيامة فلا يبقى مؤمن لا كافر إلا تولاه، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ أن الله تعالى يتولى جزاءهم، قاله مقاتل‏.‏

الثالث‏:‏ أن الولاية مصدر الولاء فكأنهم جميعاً يعترفون بأن الله تعالى هو الوليّ قاله الأخفش‏.‏

الرابع‏:‏ أن الولاية النصر، قاله اليزيدي‏.‏

وفي الفرق بين الولاية بفتح الواو وبين الولاية بكسرها وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها بفتح الواو‏:‏ للخالق، وبكسرها‏:‏ للمخلوقين، قاله أبو عبيدة‏.‏

الثاني‏:‏ أنها بالفتح في الدين، وبكسرها في السلطان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏

‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ‏(‏45‏)‏ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ‏(‏46‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نباتُ الأرض‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الماء اختلط بالنبات حين استوى‏.‏

الثاني‏:‏ أن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء حتى نما‏.‏

‏{‏فأصبح هشيماً تذروهُ الرياحُ‏}‏ يعني بامتناع الماء عنه، فحذف ذلك إيجازاً لدلالة الكلام عليه، والهشيم ما تفتت بعد اليبس من أوراق الشجر والزرع، قال الشاعر‏:‏

فأصبحت نيّماً أجسادهم *** يشبهها من رآها الهشيما

واختلف في المقصود بضرب هذا المثل على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الله تعالى ضربه مثلاً للدنيا ليدل به على زوالها بعد حسنها وابتهاجها‏:‏

الثاني‏:‏ أن الله تعالى ضربه مثلاُ لأحوال أهل الدنيا أن مع كل نعمة نقمة ومع كل فرحة ترحة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏المال والبنون زينة الحياة الدنيا‏}‏ لأن في المال جمالاً ونفعاً وفي ‏{‏البنين‏}‏ قوة ودفعاً فصارا زينة الحياة الدنيا‏.‏

‏{‏والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثواباً وخيرٌ أملاً‏}‏ فيها أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنها الصلوات الخمس، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ أنها الأعمال الصالحة، قاله ابن زيد‏.‏

الثالث‏:‏ هي الكلام الطيب‏.‏ وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً، وقاله عطية العوفي‏.‏

الرابع‏:‏ هو قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قاله عثمان بن عفان رضي الله عنه‏.‏ وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هي الباقيات الصالحات

»‏.‏ وفي ‏{‏الصالحات‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها بمعنى الصالحين لأن الصالح هو فاعل الصلاح‏.‏

الثاني‏:‏ أنها بمعنى النافعات فعبر عن المنفعة بالصلاح لأن المنفعة مصلحة‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «لما عُرج بي إلى السماء أريت إبراهيم فقال‏:‏ مر أمتك أن يكثروا من غراس الجنة فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة، فقلت وما غراس الجنة‏؟‏ قال‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

»‏.‏ ‏{‏خير عند ربك ثواباً‏}‏ يعني في الآخرة، ‏{‏وخير أملاً‏}‏ يعني عند نفسك في الدنيا، ويكون معنى قوله ‏{‏وخيرٌ أملاً‏}‏ يعني أصدق أملاً، لأن من الأمل كواذب وهذا أمل لا يكذب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 49‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ‏(‏47‏)‏ وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ‏(‏48‏)‏ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ‏(‏49‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ويوم نُسَيِّر الجبال‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يسيرها من السير حتى تنتقل عن مكانها لما فيه من ظهور الآية وعظم الإعتبار‏.‏

الثاني‏:‏ يسيرها أي يقللها حتى يصير كثيرها قليلاً يسيراً‏.‏

الثالث‏:‏ بأن يجعلها هباء منثوراً‏.‏

‏{‏وترى الأرض بارزة‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه بروز ما في بطنها من الأموات بخروجهم من قبورهم‏.‏

الثاني‏:‏ أنها فضاء لا يسترها جبل ولا نبات‏.‏

‏{‏وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏.‏

أحدها‏:‏ يعني فلم نخلف منهم أحداً، قاله ابن قتيبة، قال ومنه سمي الغدير لأنه ما تخلفه السيول‏.‏

الثاني‏:‏ فلم نستخلف منهم أحداً، قاله الكلبي‏.‏

الثالث‏:‏ معناه فلم نترك منهم أحداً، حكاه مقاتل‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وعُرِضوا على ربِّك صَفّاً‏}‏ قيل إنهم يُعرضون صفاً بعد صف كالصفوف في الصلاة، وقيل إنهم يحشرون عراة حفاة غرلاً، فقالت عائشة رضي الله عنها فما يحتشمون يومئذ‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «‏{‏لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه‏}‏» ‏[‏عبس‏:‏ 37‏]‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ووضع الكتابُ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها كتب الأعمال في أيدي العباد، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ أنه وضع الحساب، قاله الكلبي، فعبر عن الحساب بالكتاب لأنهم يحاسبون على أعمالهم المكتوبة‏.‏

‏{‏فترى المجرمين مشفقين مما فيه‏}‏ لأنه أحصاه الله ونسوه‏.‏

‏{‏ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يُغادِرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها‏}‏

وفي الصغيرة تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الضحك، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنها صغائر الذنوب التي تغفر باجتناب كبائرها‏.‏

وأما الكبيرة ففيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما جاء النص بتحريمه‏.‏

الثاني‏:‏ ما قرن بالوعيد والحَدِّ‏.‏

ويحتمل قولاً ثالثاً‏:‏ أن الصغيرة الشهوة، والكبيرة العمل‏.‏

قال قتادة‏:‏ اشتكى القوم الإحْصاء وما اشتكى أحد ظلماً، وإياكم المحقرات من الذنوب فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه‏.‏

‏{‏ووجَدوا ما عَملوا حاضِراً‏}‏ يحتمل تأويلين‏:‏

أحدهما‏:‏ ووجدوا إحصاء ما عملوا حاضراً في الكتاب‏.‏

الثاني‏:‏ ووجدوا جزاء ما عملوا عاجلاً في القيامة‏.‏

‏{‏ولا يظلم ربك أحداً‏}‏ يعني من طائع في نقصان ثوابه، أو عاص في زيادة عقابه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذ قلنا للملائكة اسجُدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجنِّ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه كان من الجن على ما ذكره الله تعالى‏.‏ ومنع قائل هذا بعد ذلك أن يكون من الملائكة لأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن له ذرية، والملائكة لا ذرية لهم‏.‏

الثاني‏:‏ أن الملائكة رسل الله سبحانه ولا يجوز عليهم الكفر، وإبليس قد كفر، قال الحسن‏:‏ ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه من الملائكة، ومن قالوا بهذا اختلفوا في معنى قوله تعالى ‏{‏كان من الجن‏}‏ على ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ ما قاله قتادة أنه كان من أفضل صنف من الملائكة يقال لهم الجن‏.‏

الثاني‏:‏ ما قاله ابن عباس، أنه كان من الملائكة من خزان الجنة ومدبر أمر السماء الدنيا فلذلك قيل من الجن لخزانة الجنة، كما يقال مكي وبصري‏.‏

الثالث‏:‏ أن الجن سبط من الملائكة خلقوا من نار وإبليس منهم، وخلق سائر الملائكة من نور، قاله سعيد من جبير، قاله الحسن‏:‏ خلق إبليس من نار وإلى النار يعود‏.‏

الثالث‏:‏ أن إبليس لم يكن من الإنس ولا من الجن، ولكن كان من الجان، وقد مضى من ذكره واشتقاق اسمه ما أغنى‏.‏

‏{‏ففسق عن أمر ربه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الفسق الاتساع ومعناه اتسع في محارم الله تعالى‏:‏

الثاني‏:‏ أن الفسق الخروج أي خرج من طاعة ربه، من قولهم فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وسميت الفأرة فويسقة لخروجها من حجرها قال رؤبة بن العجاج‏:‏

يهوين من نجدٍ وغورٍ غائرا *** فواسقاً عن قصدها جوائرا

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ بئس للظالمين بدلاً‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بئس ما استبدلوا بطاعة الله طاعة إبليس، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ بئس ما استبدلوا بالجنة النار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ‏(‏51‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ما أشهدتهم خلق السموات والأرض‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما أشهدت إبليس وذريته‏.‏

الثاني‏:‏ ما أشهدت جميع الخلق خلق السموات والأرض‏.‏

وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما أشهدتهم إياها استعانة بهم في خلقها‏.‏

الثاني‏:‏ ما أشهدتهم خلقها فيعلموا من قدرتي ما لا يكفرون معه‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ ما أشهدتهم خلقها فيحيطون علماً بغيبها لاختصاص الله بعلم الغيب دونه خلقه‏.‏

‏{‏ولا خلق أنفسهم‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما استعنت ببعضهم على خلق بعض‏.‏

الثاني‏:‏ ما أشهدت بعضهم خلق بعض‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ ما أعلمتم خلق أنفسهم فكيف يعلمون خلق غيرهم‏.‏

‏{‏وما كنت متخذ المضلين عضدا‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني أولياء‏.‏

الثاني‏:‏ أعواناً، ووجدته منقولاً عن الكلبي‏.‏

وفيما أراد أنه لم يتخذهم فيه أعواناً وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أعواناً في خلق السموات والأرض‏.‏

الثاني‏:‏ أعواناً لعبدة الأوثان، قاله الكلبي‏.‏

وفي هؤلاء المضلين قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ إبليس وذريته‏.‏

الثاني‏:‏ كل مضل من الخلائق كلهم‏.‏

قال بعض السلف‏:‏ إذا كان ذنب المرء من قبل الشهوة فارْجُه، وإذا كان من قبل الكبر فلا ترْجه، لأن إبليس كان ذنبه من قبل الكبر فلم تقبل توبته، وكان ذنب آدم من قبل الشهوة فتاب الله عليه‏.‏ وقد أشار بعض الشعراء إلى هذا المعنى فقال‏:‏

إذا ما الفتى طاح في غيّه *** فَرَجِّ الفتى للتُّقى رَجّه

فقد يغلط الركب نهج الط *** ريق ثم يعود إلى نهجه